أنا شاب نشأ محاولاً جهده أن يقدم شيئاً لدينه، ووجد أن الخرق اتسع على الراقع، ووجد أن الدعوة لا تنال إلا فضول أوقات الناس، ووجد أجيالاً لا تجد من يبلغها ما أنزل ربها، نعم كنت في الثانوية لدي من الطاقة والطموح ما يكفي لأن أكون الأول في كل المجالات، في الدراسة وعلوم الكمبيوتر والعلاقات الاجتماعية؛ بل حتى الكرة والشطرنج لا أقبل أن يفوقني أحد.
عندما تفتحت عيناي على حقيقة هذا الدين تحولت حياتي، وكل تلك الطاقات إلى جهة واحدة وغاية سامية؛ مضيت أبلِّغ هذا الدين بكل وسيلة: بلساني، ومالي، ووقتي و جهدي، وبالمقالة والكتاب والتغريد، وفي كل مكان: في المسجد، والشارع ...
هل أثخنتني الغربة وطول الطريق؛ فبدأت أتلمس الحجج الشرعية لمنهج أسهل وطريق أيسر؟
نعم.. إن استبدال هذا النهج بالنهج الدعوي يلقي عن كاهلي حملاً ثقيلاً جداًَ.
هل أنا كالذي أصابته مصيبة فانقلب على عقبيه؟
كالذي يخشى الناس كخشية الله؟
كالذي يعبد الله على حرف؟
كالتي نقضت غزلها؟
هل هذا تغيير شرعي أو خيانة تتنكر بذلك الزي؟
كلَّ قلمي، و أنا هنا أسير غربتي ووحشتي ووحدتي.
هذا حديث نفس لوامة.. إن صاغته عبارة واحدة؛ فهو همٌّ يختلج في نفوس كثيرة!
فيا صاحب الهم المقعد المقيم:
أمدّك الله بطاعته وتثبيته، وما تذكره من الهمّ الذي ينتابك كثيراً نحسبه -إن شاء الله- من الهمّ في سبيله، وهذا مما يرفع الدرجات لكن هنا بعض الوصايا:
1- ينبغي ألا يتحول هذا الهمّ إلى حزن مقعد، ويأس مصاحب، وحرج في القول والعمل يوقع في الإفراط، أو شدة لا تقرها الشريعة في الإصلاح والدعوة، فإن بعض من يأخذه هذا المعنى الفاضل في أصله لا يزال يستجمعه ولا يرى إلا هو صدقاً مع الله، وإخلاصاً للدين، ويغفل عن الصبر على أقدار الله، والصبر في سبيله. فإنك تدرك أن هذه الأمة ابتليت بفتن لم تكن فيها من قبل وهذا خبره -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيح عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- في سياق طويل : «.. وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِى أَوَّلِهَا وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلاَءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا ..» [ أخرجه مسلم 1844]، وقد ذمّ الله الحزن المقعد ونهى عنه نبيه -صلى الله عليه وسلم- فقال :(وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) (النمل:70)، (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:139)، فأحسن الظن بالله، وبالأمة.
2- مع أن هذا المعنى لديك معنى فاضل، وهو إن شاء الله أمارة تقوى؛ إلا أن الأمة لن يصلحها مثل هذا الشعور، وإن كان الداعية بل كل مسلم بحاجة إلى قدر مناسب منه يوقظ القلب ويبعث على بذل الذات في سبيل الله (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام:162)؛ بل ينبغي أن يكون داعياً إلى نشر العلم والتربية والدعوة، وقبل ذلك إصلاح النفس وتزكيتها بالعلم والعمل والأخلاق الفاضلة، ويجب أن نتجاوز مرحلة المشاعر إلى العمل.
3- إن المسلم ولا سيما من يعيش همّ الإسلام وأهله لا بد له من حسن الإدراك، والفقه لواقع الأمة، إن هذه الأمة وإن ابتليت بمشاريع التغييب والتغريب التي استعملها أعداؤها، لكن ندرك أنها خير أمة أخرجت للناس، وفيها عناصر الخيرية والفضيلة، وقابلية التحويل إلى السيادة، وصياغة مشروعها العلمي والأخلاقي والاجتماعي، والانعتاق من تسلط أعدائها، لكن هذا يستدعي صبر دعاة الإسلام وإحسانهم الظن بأن الأمة مهيأة للإصلاح، لكنها أمة غفل كثير من أهلها عنها..
إن امتداد الولاء بين المسلمين لمثل أحداث سوريا وبورما الدامية يؤكد أن أهل الإسلام فيهم خير كثير، واستعداد للتحول إلى الأخلاق والصياغة الإسلامية الشرعية، والإحساس برابط الأخوة والولاء.
4- ما تذكره من انصبابك إلى الجهاد أصله فاضل، فالجهاد ذروة سنام الإسلام، وسؤدد الأمة، ويفترض أن تربى الأمة على الجهاد، وعلى الإيمان بالجهاد، وعلى الفقه بالجهاد، وعلى حكمة الشريعة في الجهاد، لكن تعلم أن قصر الدعوة في الإصلاح على باب واحد هو باب الجهاد ليس منهجاً تاماً، والرسل استعملوا غير باب، وسيدهم محمد -صلى الله عليه وسلم- بقي بمكة ثلاث عشرة سنة لم يحمل سيفاً، مع أنه إمام المجاهدين، لقد كان يجاهد النفوس ليعود بها إلى فطرتها وفضيلتها، ويجاهد العقول لتسمع الوحي الذي نزل مخاطباً العقل البشري خطاباً يمثل الأنموذج الأسمى في الصياغة العقلية في أمثال القرآن المضروبة، وأمثال الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
إن الإسلام جاء بقبول الجزية، وصحة العهد عند اجتماع شروطه، وأمثال ذلك..، وهذا ليس تعطيلاً للجهاد، لكن التحويل للواقع يوجب هذا التنوع.
إن الإسلام يوم قَبِل الجزية من أهل الكتاب لم يكن يقصد المحافظة على بقاء دين محرف، بل ثمة مقاصد شرعية ليس هذا محلها، المستفاد هنا أنك ينبغي أن تكون ذا تنوع في العمل، والجهاد له حقه، وأبواب الإسلام كثيرة.
5- إنني لا أرى لك أن تلجم جماح العقل الرشيد والفكر الناضج بلجام المألوف، والمألوف فحسب؛ لأن مما تعبّدنا الله به في الجهاد وفي الدعوة، بل وفي أمر الحياة الدنيا؛ أن نفكر في الأسباب والعواقب، وأن ندرس الإخفاق ونتعلم منه، وهكذا جاء البيان في سورة آل عمران، فكون العمل -أي عمل- مشروعاً في الأصل لا يعني بالضرورة أن كل صورة من صوره مشروعة بزمانها ومكانها وظروفها وشخوصها.
لقد أحلّ الله البيع؛ ولكن كم من تاجر مخلص يخفق لسبب أو لآخر، وشرع الله لنا الزواج؛ وكم من زواج تكون عاقبته الفراق والطلاق، وأوجب الله علينا الدعوة؛ ورب داعٍ لم يوفق في الأسلوب المناسب؛ فكان ما يفسد أكثر مما يصلح، وليس هذا معياراً إلا على ضرورة المراجعة الدائمة والتصحيح، وهذا ما لا يدركه إلا أصحاب العلم المعتدل، وأصحاب العقول الراجحة.
وليست القلة أو الغربة، ولا حتى مزيد التضحية فيما يبدو للناس علامة على الأحقية بالصواب، ولو أردنا أن نستدعي مثلاً تاريخياً؛ لكان أقرب مثل هو الخوارج، فهم أكثر الناس تضحية وشجاعة وتسارعاً إلى الموت؛ ولكنهم أبعد الناس عن الهدى، وأولاهم بالضلالة.
ويبقى أن راية الجهاد ستظل مرفوعةً كما أخبر الصادق المصدوق، لكن مع رايات أخرى، البشارة بشأنها آكد وأعظم وأدوم، كراية الدعوة والعلم والإصلاح، وهي رايات تتضافر ولا تتنافر، ويكمل بعضها بعضاً، ونحن نرى اليوم أمثلة للجهاد الصابر؛ الذي هو محط الأنظار بالمال أو باللسان أو باليد في غير ما بلد، ونرى في كل بلد إسلامي راية للدعوة والعلم والخير والإصلاح يرجى أن تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
الشيخ سلمان العودة:
Othmane Ait Hssain رائع , جزاك الله خيرا 30 juin 2013 00:20